23‏/04‏/2009

ثلاثية أطياف الأزقة المهجورة لـ تركي الحمد ( قراءة عابرة ) .




كانت مسقط تتجهز لاستقبال احتفالات دورة كأس الخليج 19 ببعثات المنتخبات المشاركة حيث تزينت بحلة جميلة زاهية لتغدو كالعروس التي تلفح وجهها نسائم الهواء الباردة القادمة من الخليج العماني مبشرة بشتاء تقرع درجات حرارته قاع 14 درجة مئوية أو أقل بقليل فشتائنا هو نفسه صيف لندن كما سمعت عنه .
اجازة شهر تنطلق من نهاية ديسمبر لتعبر رأس السنة الميلادية وتتوقف عند طرف يناير كفيلة بفتح أبواب الفراغ على مصراعيها وإدارة محركات التفكير في الوسائل التي يملئ بها المرء وقت فراغه .. كانت الوسائل كثيرة لملئ وقت الفراغ كالسفر والتجوال وزيارة الأصدقاء والأقربين أو قضاء بعض وقت الفراغ في قراءة كتاب تأنس به النفس وتستريح .. قضيت حظاً من وقتي في التجوال والتفرغ لمنافسات كأس الخليج والتهيؤ للوقائع المباشرة في الميادين الخضراء وأخذت ما بقي من الوقت لأسبر اغوار كتاب اخترته بعناية وتقصيت أخباره قبل البداية .
لم تكن مكتبة المنزل فقيرة بالكتب بل على العكس من ذلك كانت مليئة بكتب كثيرة تحمل بين طياتها حبراً مصبوباً وجهداً طائلاً بذله أصحابها وفرغوه بين دفتيها لتتلألأ بنور العلم وتسطع بضياء المعرفة وتشع بمصابيح الثقافة والحضارة ولكن مع ذلك كانت في معظمها من النوع الدسم الذي يحتاج لإعمال عقل ونقاوة نفس وراحة بال لا تتوفر إلا في أصحاب الهمم العالية السائرين على درب العلوم وطريقها النوراني ..
أخذت نظرة عابرة على الكتب هناك وتقصيت أثر واحد منها يكون خفيفا لا بالدسم السمين ولا بالترف الهزيل ويحمل أحداثاً مشوقة تجرك بوقائعها إليها وتربطك بمدادها عليها .. فكان الإختيار على " ثلاثية أطياف الأزقة المهجورة " لتركي الحمد .
بدأت بجزئها الأول العدامة ومررت بجزئها الثاني الشميسي لأتوقف مع آخر صفحة من جزئها الأخير الكراديب لأنهي الثلاثية خلال خمسة أيام .. خمسة أيام بلياليها أغدو وأروح وأسير بين الثلاثية بأطيافها المهجورة وأشارك الكاتب بعض همومه واعترض على أخرى وأغضب لأخرى ، كان الكاتب يحملك معه ويأسرك بأسلوبه المتميز السلس الغارق في الخيال تارة وبراعة وصف الواقع تارة أخرى .
بدأ كاتبها بالعدامة حيث المقارعة السياسية والدخول في اتون العمل التنظيمي المحظور مروراً بالشميسي حيث الإنغماس في الشهوات ودعوات الشيطان والنفس الأمارة بالسوء وانتهاءاً بالكردايب والتي تضيق فيها نفس السجين وتحدثه عن المباح والمحظور و عن عالم الغيب والشهادة وعن متاهات العقل وسراديبه وعشقه للكشف عن كل شيء دون أي شيء .
الحكاية كما يقال عنها مذكرات للكاتب نفسه – تركي الحمد – عندما كان يخوض غمار التحولات الإجتماعية والفكرية والثقافية في المجتمع السعودي حيث الإنفتاح الذي أوجبه عصر النفط على المنطقة وجعل الجزيرة العربية وتخومها ساحة للصراعات السياسية والفكرية بقضها وقضيضها .
في الطيف الأول من ثلاثيته الذي أسماه بالعدامة جال بنا الكاتب مع بطل الرواية هشام العابر في حي العدامة بالدمام ،، ذاك الحي الذي يقع بالقرب من آبار النفط ومصافيه وموانيه وعند أسوار معسكرات الشركات الأمريكية بموضفيها من الأمريكان وغيرهم .. هشام العابر فتاً في المرحلة الثانوية من الدراسة يبلغ من العمر 18 عاماً مثقف جداً ، نهم في القراءة ، عاشق للفلسفة والفكر وتنظيماتها وتجمعاتها المختلفة ، منغمس في السياسة وتحليلاتها ، ومتأثر جداً بالعمل السياسي وأصدائه العابرة للجزيرة العربية من التخوم الشمالية لها في الشام ومصر وغيرها من بلدان العرب هناك .. ينتمي هشام لأسرة ثرية بعض الشيء ، يعيش حياة مترفة كونه وحيد أبويه ، منعزل إلا مع اصدقائه المقربين والذي يقضي معهم جُل وقته المتبقي بعد القراءة والإستماع لأخبار الديار العربية . في المدرسة يلتقي هشام بأحد أتباع حزب البعث من زملائه لينضم معه في العمل التنظيمي السياسي المحظور في السعودية ويدخل معهم – أصحاب التنظيم – في نقاشات مستمرة يخالفهم في معظمها ويتفق في بعضها . يتم اكتشاف التنظيم من قبل الحكومة وتبدأ حملة اعتقالات في صفوفه حيث ينجو هشام منها لبعض الوقت .
في الطيف الثاني والذي أسماه بالشميسي ينهي هشام دراسته الثانوية ليغادر إلى مدينة الرياض للبدء في الدراسة الجامعية ملتحقاً بكلية التجارة متخصصاً في الإقتصاد والعلوم السياسية ،، يعيش لبعض الوقت مع خاله وأبنائه في منزلهم في حي الشميسي بالرياض ،، خاله رجل صالح متدين له عدد من الأبناء بعضهم في عمر هشام وبعضهم أكبر منه ، يبدأ هشام في تلك الفترة الإنفتاح على عوالم أخرى في العاصمة الرياض تختلف تماماً عما عايشه في مدينته الدمام بين أبويه وأبناء عشيرته ، حيث يجره الإنفتاح الغير متوازن إلى الإنغماس في وحول الملذات هو وأبناء خاله من شرب للخمر وعلاقات محرمة مع بعض الفتيات ،، تتردى أحوال دراسته بسبب غرقه في مستنقع الخمر والنساء ليعيد تفكيره في نفسه وممارساته الخاطئه ..
في الجهة المقابلة كانت الحكومة مستمرة في الكشف عن شخصيات التنظيم واحدة تلو الأخرى حتى تصل إلى هشام الذي حاول الهرب من البلاد دون جدوى فقد تم اعتقاله في المطار .
الطيف الثالث والأخير من الرواية أسماه الكاتب بالكراديب والكردايب سجن في جدة ، يتم سجن هشام فيه بعد اعتقاله تدور في السجن نقاشات قوية بينه وبين عدد من المعتقلين من الشيوعيين والإخوان المسلمين وغيرهم من أصحاب التيارات الفكرية المختلفة ، يضيق السجن بهشام ليدخل في متاهات فلسفية وفكرية ونفسية عميقة جداً حتى يتخلص منها بعد اعترافه بتهمته بعد ضغط المحققين والسجانين بوحشيتهم المتعارف عليها في السجون العربية ليخرج من السجن بعد سنتين من اعتقاله ويجد الحياة والبلاد ومدينته وأهله وعائلته قد تغيرت وتحولت إلى الأفضل .
أخيراً أقول ..
لـ تركي الحمد كتب وروايات أخرى أذكر منها :
سياسة وفكر :
• دراسات أيديولوجية في الحالة العربية.
• الثقافة العربية أمام تحديات التغيير.
• الحركات الثورية المقارنة.
• عن الإنسان أتحدث.
• الثقافة العربية في عصر العولمة.
• ويبقى التاريخ مفتوحا.
• من هنا يبدأ التغيير.
• السياسة بين الحلال والحرام.
روايات :
• ريح الجنة.
• أطياف الأزقة المهجورة .
• شرق الوادي.
• جروح الذاكرة .

انتهيت من قراءة الرواية في خمسة أيام كما ذكرت سابقاً وهي جميلة رائعة مع غض النظر عن بعض أحداثها التي لا تنتمي للأخلاق والدين بصلة ..انتهيت منها وكان الشتاء يحتضن احتفالات رائعة بفوز المنتخب الوطني بكأس الخليج والمسيرات تجوب الوطن وصرخات الحناجر تشيع الفرحة في كل الأرجاء وتملأ الآذان لحناً شجياً يطرب الأسماع و يجدد الحب لـ عُمان بربوعها وللعامرة مسقط .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق