29‏/10‏/2009

الموت والميلاد والظلام والضياء .. (1)



أخبرني صاحبي ذات مساء بمجموعة مذكرات قرأها من دفتر لوالده الذي ورثه عن جده المرحوم ، فصاحبي هذا يحب قراءة مذكرات كبار السن وخاصة ذوي الإطلاع والقراءة منهم ويحتفظ بمجموعات منسوخة منها ليست بالقليلة يتحفنا بواحدة منها في كل جلسة ولقاء يجمعنا ليعطر بها المجلس ويثير التساؤلات موجهة من الحاضرين من الأخوة والأصدقاء لبعضهم البعض فقد أذن له والده في التصرف بالمذكرات بما فيه الفائدة العلمية والمعرفية.

يقول صاحبي نقلاً من دفتر أبيه عن قلم جده:

في يوم من أيام الزمان الطويل ببلادنا هذه المليئة بالجبال والأفلاج والفيافي والقفار وفي ليلة غاب عنها القمر بعد أن لبدت سمائها الغيوم الثقال وبينما كنت أقعد خلف طاولة مكتبي المتهالك في بيتنا الذي ورثته عن أبي الشيخ الضرير رحمه الله أقلب أحد مجلدات رسائل اخوان الصفا وخلان الوفاء المحققة ببلاد الهند والمطبوعة بها وقعت إذ ذاك يدي قبل نظري على ظرف رسالة بين رسائل كثيرة وصلتني قبل يومين وسهيت عن فتحها و التحقق عما بها لأشغالي الكثيرة .. أخذت الظرف المطرز بجميل خط وأنيق زركشة وقلبته كي أفتحه وأهم بقراءة ما بداخله من رسالة ومرسول كلام فوجدت التالي :

( إنه شتاء تلك البلاد القارص ، ترتعد الفرائص ، وتزمجر الأسنان فوق الأسنان محاولة منها لردع جحافل البرودة القاسية ، أصوات تتسرب إلي من بعيد كأنها صيحات مقاتل جريح أو عواء ذئب يرسل صيحاته مسابقاً صرير الرياح الباردة .. لا أدري بل أكاد لم أدري ولن أدري كيف يمتزج كل هذا الخوف في آن واحد حتى الدموع إن استأذنت بالخروج لتخفف عن النفس ثقل الحزن فإنني أمنعها كي لا تموت متجمدة على خدي فلها لدي كباقي أعضاء جسدي عهد وميثاق بالحفاظ عليها حتى يأذن الله لروحي بالرحيل .. كنت ألتحف بكل ما أملك من أنواع القماش الصوفي والقطني وأخريات لا أعرفها وأشعل النار أملاً بشعاع دفئ يضفي على الجسد قبسات نور تواجه ظلمة البرد والشتاء الحالكة ،، وكنت هذه أصبحت من الماضي بعد ما جائني الخبر الحزين .

فطبقة من القماش فوق أختها أحس بتهالكها الواحدة تلو الأخرى أمام رماح البرودة الشرسة ، وبقايا اللهيب الناري أمامي هي الأخرى تترنح وتلفظ أنفاسها الأخيرة .. ما الذي يحدث هنا ؟!

يا لها من ليلة رهيبة ، ليست كباقي الليالي الماضيات ، أكاد أجزم أن جميع الحيوانات تبيت منزوية في مخادعها وإن خرجت أحداها منها فإن أنياب الشتاء ستكون لها بالمرصاد ، حتى شقيقي الإنسان أراه يتركني أواجه مصيري وحيداً بين كل هذه الكثبان الثلجية ويتخلى عني كأني خيط صغير لا أهمية له في هذا الكون الضخم الهائل ..

أطرافي تزداد برودة وأحس بأن الإحساس بوجودها بدأ بالزوال .. حرارتي تنقص ونشيج رئتي ينقبض وجارها القلب يأن ويضعف ليرسل وصيته الأخيرة لأصحابه جميعاً أن تجهزوا لزيارة محتملة لما يسمى بالموت ،، فكل الظروف تحثه على القدوم وكل الأحداث الأخيرة أردت بمناعة الجسد إلى قاع من الضعف الشديد فلا بد من استقبال لهذا المجهول في أي وقت قادم ..

أحس بدوار وصداع وبعدها نعاس هائل جذبني لفقدان الوعي والغياب عن كل المحيط .. لا أدري ما الذي حدث أثناء الغياب ولكنني وبعد فترة استيقظت لأجد نفسي على سرير طبي في أحد المستشفيات لأتلقى علاجاً عاجلاً لإنعاش الأعضاء المتأثرة كثيراً بالبرودة القاسية .. سألت أحد الأطباء عمن أتى بي إلى هنا ؟ فقال بأن احدى دوريات الشرطة وجدتك في حالتك تلك تحت إحدى الأشجار وأتت بك إلى هنا .. استغرقت في المستشفى أتلقى العلاج لأكثر من أسبوعين وخرجت منه لأراجعه كل شهر للتأكد من تحسن حالتي وعودتها إلى ما كانت عليه قبل الحادثة ،، حمدت الله كثيراً بأن أنقذني مما كنت فيه وكتب لي عمراً جديدا ..

كما قرأت أيها الزميل ، وبعد حادثتي هذه أجد في نفسي رغبة عارمة للخوض في لغز الزائر الذي تحدث عنه قلبي في وصيته للآخرين من أخوانه ،، فهل لك أن تأخذني في رحلة غموضياته التي حاول أن يسبر أغوارها الإنسان ويبني أمامها الكثير من الأفكار والمعتقدات والفلسفات قبل دين الرحمة الإسلام وبعده وإبان العصور القديمة والحضارات الغابرة والمنسية ؟!

إن فعلت ذلك كنت لك من الشاكرين وإن أحجمت فسأقدر لك احجامك وأعذرك حتى يصلني الخبر اليقين ) ..

تبسمت ضاحكاً مما ختم به رسالته وتأملت في طلبه المهم والصعب في الوقت نفسه ، فهو يريد مني الخوض في بحر خاض فيه فلاسفة ومفكرون وعلماء ومثقفون عاشوا على هذه البسيطة قبلي بسنوات كثيرة وكتبوا عنه ما تعجز الدواب الصابرة عن حمله ، فكيف بي أنا العبد الضعيف الفقير علماً ومعرفة أن أحمل قاربي العتيق لأعبر عباب البحر وأجدف فيه بألواح قديمة ؟ وكيف لي أن أسرد قصة غيبية لا أعرف عنها من حقيقة إلا ما ذكره الله في كتابه وتواردت إلينا عنها المرويات المنسوبة لنبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم ،،..

وبعد تلك التساؤلات والإستفهامات وبينما كنت أهم بوضع الرسالة في مكان قريب مني على ظهر الطاولة انتبهت لكتابة على ظهر الرسالة يبدو أن صاحبها قد أضافها هناك تدعيماً لطلبه ، وكانت كالتالي : " حدثني عن الموت عند الإغريق وعنه عند حضارات الشرق ودياناتها اللاسماوية وعنه عند فلاسفة المسلمين وردودهم على مخالفيهم في العقيدة "..

اتضح الطلب لدي بعد أن قرأت تلك الملاحظة في ظهر الرسالة وبدأت بعدها في إدارة مسننات رأسي علها تبدع في وضع اللبنات كي يكتمل بنيان الجواب ..

تناولت قلماً وورقة وبدأت أكتب :

" بسم الله الرحمن الرحيم

وبه أستعين ..

فقد وردني كتابك وما فيه مما كتبه الله أن يصيبك واني أحمد الله على سلامتك وادعوه تعالى لك بالشفاء العاجل والصحة والعافية ..

وقد تفحصت بعدها طلبك في آخر المقال وإنني والله زادي قليل لا يقدر على ارواء ظمأ طلب العلم لديك ولست من أهل العلم ولا الفكر حتى يخوض في مسائل كهذه بحيث يتمكن من اشباعها شرحاً وتفصيلاً ويأخذ منها ويعطي ولكن ومع ذلك لن أرد طلبك وسأكتب لك ما اعرفه في هذه المسألة والله ولي التوفيق .

فاعلم أولاً أيها العزيز أن الموت حقيقة لا بد منها وأن الموت إن حان موعده فلن يتأخر لحظة ولن يتقدم ، هذه الحقيقة سيواجهها الجميع أكان ملكاً أم عبدأ ، رجلاً أم امرأة ، شيخاً أم طفلاً . جميعهم ستأتي ساعة فراقهم للحياة الدنيا ينطلقون منها إلى حياة أخرى يكون القبر بابها والمبعث انطلاقتها .. أنا وأنت والآخرين سنكون في عداد الأموات عندما يأذن الله بذلك وأنا وأنت سنبعث من قبورنا لنحاسب على عملنا في الحياة الدنيا ويُحدد مصيرنا في الحياة الأخرى به أإلى الجنة أم إلى النار وفي أيهما يكون الخلود .. هذا ما أؤمن به وأراه حقاً لا بد من وقوعه وهذه هي الحقيقة التي أخبرنا الله بها في كتابه العزيز وهي باختصار شديد نظرة الإسلام لقضية الموت وما بعده وسأفصل فيها بعد تفصيل قضايا قبلها ..

سأبدأ من الفكر الغربي و قصة استقراءه للموت ونظرته إليه وستكون البداية من حضارة الإغريق أم المدنية الغربية وإحدى المؤثرات الكبريات في تاريخ الإنسانية الطويل ..

هناك الفلاسفة ما قبل سقراط كطاليس اليوناني الذي عاش في مدينة ميليتوس في آسيا الصغرى والذي يقول بأن الماء هو أصل الكون وتكوينه الأساسي . واناكسمندر وهو من نفس جماعة طاليس إلا أنه تدرج في فكرته حول الكون وأصله إلى أن قال بأن الهواء هو أصل الكون ليتكثف ويكون الماء والنار مخالفاً بذلك فكرة طاليس.

وإذا نظرنا لهذه الفكرة من إطارها القائل بأن أصل الكون واحد أكان ماءاً أو هواء وقوتها فإن انهيار المتكون بالموت سيكون أقل قوة وحدة من أصل الفكرة نفسها ، فنجد أن اناكسمندر له نص فلسفي يقول فيه ( أن الأشياء تفنى وتنحل إلى الأصول التي نشأت عنها ، وفقاً لما جرى به القضاء ) فهذا الفيلسوف يحاول مواجهة لغز الموت وفناء الأشياء بافتراضه أن هذه الأشياء تعود بعد مماتها وفنائها إلى أصولها التي نشأت عنها محاولة منه لتحييد الموت واحياء الأمل في عدم قدرة الموت على افناء الشيء و اتخاذه مركز السيادة ، ربما أثر فيه مشاهدة الموجود يفنى أمامه والسؤال بالهدف من وجود الموجود إن كان مصيره إلى الفناء ! فكانت الإجابة محاولة منه لتخفيف شدة السؤال والحيرة التي تعتريه بافتراض أصل الكون من الهواء وعودة الموجود بعد موته إلى أصله الذي كان عليه .

وهناك كذلك هيرقليطس وفيتاغورث ، فهيرقليطس يقول بأن العالم لا يتماسك إلا بالصراع بين الأضداد ، بين الحياة والموت واليقظة والنوم وبين غيرها من المتناقضات ، و هذا الصراع هو العدل الأكبر لا ظلم فيه ولا بخس ، فالعالم بهذا الصراع ذو حركة دائمة لا ثبات فيه لأي شيء أبدا.

هيرقليطس هذا أيها الزميل يقول بأن أصل الأشياء وجوهرها كلها نار، ولأن كل العالم يتخذ من الصراع مسلكاً ومن التغيير والحركة الدائمة سبيلاً لا يحيد عنه ولا يبتعد كما يقول فإن الموت كذلك لن يبقى على حاله ولن يدوم فالروح الإنسانية كما يقول جزء من النار التي تؤثر بتقلبات كبيرة في قدرة هذه الروح على الحياة في جسد المرء فإن كانت جافة اقتربت من الحكمة وإن كانت رطبة اقتربت من الموت اللانهائي الغير مستقر على حالة الفناء وإنما التدرج لحالات أخرى كما قلتُ سابقاً .

أما فيتاغورث فقد قال بتناسخ الروح ، فالروح تخرج من الجسد عند الموت لتتطهر ثم تعود لجسد آخر عند ميلاده وهكذا لعدة مرات حتى تبلغ النهاية بالإتحاد مع الله ، وقد تجد هذه الفكرة تتجلى كثيراً مع بعض الإختلاف في معتقدات أديان وثنية كثيرة في الشرق كديانات بلاد الهند وبني الأصفر في أقصى الشرق وربما يكون منبعها من لدن فيتاغورث وتسربت بعدها إلى معتقدات هؤلاء والله أعلم .

واذا نظرنا إلى فلسفة ديموقريطس القائلة بأن الأشياء مكونة من ذرات فإنه ومن خلال هذه الفلسفة يقول بعكس ما قاله الآخرون قبلاً في نظرته للموت ، فهو يقول بفناء الروح فالذرات التي تتكون منها الروح تتبدد وتتحلل تحللاً كاملاً ..

هذه نظرة الفلاسفة اليونان ما قبل سقراط إلى الموت و ما بعد الموت مع عدم تجاهل أقوال الآخرين من الفلاسفة المعاصرين لهم كـلوسيبوس و بارمنيدس و أناكسجوراس وآخرين لا يسع ذكر ما قالوه في هذه الرسالة ).

تركت قلمي والورقة ونويت أكمال رسالتي بعد قسط من الراحة .. أخذت أجول بناظري في المكتبة العتيقة المليئة بأمهات الكتب في شتى فنون المعرفة ، لقد صدق والدي عندما قال أن الكتاب له قرب من القلب يجاوز مئات الدراهم والدنانير ، فهو رحمه الله وإن أخذ الله تعالى عنه البصر فإنه كان متعلقاً بالكتب تعلقاً شديداً وقد كنتُ اقرأ عليه صفحات من كتاب يختاره بنفسه بعد صلاتي الفجر والعصر ويناقشني فيما اقرأه عليه ويقص علي العديد من القصص التي خبرها من حياته الطويلة خارج البلاد ومن ثم داخلها متنقلاً بين فيافيها وقفارها، ويحاول بكل جهده أن يحثني على الإطلاع واكتشاف العلم ومحاولة الكشف عن المعرفة من كل مخابئها .. فقد كان شيخاً تقياً نقياً يطيل صلاة ليله ويصوم أياماً كثيرة يتقرب من خلالها إلى الله العزيز الحميد ولم يكن يحصر نفسه في مكتبته ومجلسه والمسجد وحيداً بل كان يستقبل الضيوف القادمين إليه من مناطق مختلفة يسألونه فيما أشكل عليهم من أمور دينهم و يأخذون بمشورته في أمور دنياهم ويحاول بشتى الطرق مساعدتهم وارشادهم لما يراه خيرا لهم ، رحمه الله رحمة واسعه وأسكنه فسيح جناته .

وأنا أستحضر ذكريات الماضي إذ ذاك اتنقل بين حادثة وحدث ومقام ومقال اخفف على عقلي آثار الطحن الفلسفي في مقدمة الرسالة سمعتُ وقع أقدام تقترب من باب المكتبة ، وطرقات خفيفة على جدارها الخشبي تمتزج مع أصوات قطرات المطر التي أذن الله لها أن تنزل راحماً عباده ، وتتدرج في الهدوء كلما ازدادت زخات المطر بالهطول ،تسائلت في نفسي عن هذا المزعج في هذه اللحظة يقطع عني خلوتي مع الذكريات ! نظرت إلى القادم فإذا به ابني الأصغر علي .. آآه أيها الصغير .. دائماً ما تقطع خلوة أبيك التي يقتطفها اقتطافاً من ساعات يومه الحافل بالمشاغل المختلفة .. نظر إلي وفي عينيه بصيص من جمال حياة عذبة وتشرق بوجهه ابتسامة ممتزجة ببراءة الطفولة وطهارة القلب ..

مسحت على رأسه وقبلته وأجلسته عندي أتفكر من خلاله في لمحات من مسيرة الإنسان منذ بداية وجوده إلى الآن ..

منذ آدم إلى الآن ومليارات من البشر ظهرت على وجه البسيطة ثم اختفت ، أمم وضعت بصماتها على سجل التاريخ ومنها لم تضع فتجاهلها التاريخ نفسه وطوى صفحاته عنها ، و حضارات قامت على جثث المستضعفين وأخرى لحمايتهم وفي كلها وعَبر تاريخ الزمن حكايات وروايات ودروس وعِبر تترى علينا أملاً أن يتعلم منها الناس ويتجنبون الخوض في المستنقعات التي سقط فيها أسلافهم ولكن وللأسف نرى الحكايات تتكرر وتزداد قسوة وشراسه .. هل يفرض علينا التاريخ نفسه ويعيد كراته علينا ؟ أم أن الإنسان يفرض على التاريخ تمزيق الصفحات السالفة ولصقها في حاضرنا ؟ هل للموت الذي بحث عن سره الفلاسفة والمفكرون في أممهم وحضاراتهم دور في سير عجلة الزمان بما نراه حاضراً وماضياً من نشر عرائس الدم وكتابة التاريخ بلونه الأحمر ؟! هل إيمان المرء بأنه روحه أرقى من أرواح الآخرين بجنسه الآري أو السامي أو الأبيض بشكل عام يجعل منه شيطاناً ذو أنياب تمزق أجساد الآخرين من أجل رقي جنسه مادياً ؟!

لعلي أبحث عن سر التاريخ والحياة و خليط الدماء في وقت لاحق كي لا ألزم عقلي بطحن فكري آخر يزاحم ما خزنته الذاكرة من أقوال الفلاسفة والأديان عن الموت وما بعد الموت ..

ابتسمت في وجه علي وناديت أخاه الأكبر كي يحمله خارج المكتب فأمرُ الرسالة يحتاج إلى فضاء فكر ومكان ..


يتبع في جزئه الثاني .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق