15‏/01‏/2010

فـرديّةُ الإنـسـان في وجـهِ الجـمـاعة!!


الإنسان اجتماعي بطبعه غير قادر على الإنعزال الكامل والتجرد عن الأقران جسداً وفكراً وعقلاً ، فلا بد له أن يعيش مع أفراد آخرين ليكوّن تجمع بمفهومه المصغر في الأسرة أو بمفهومه الواسع في المجتمع ويرتبط معهم بمجموعة من المفاهيم والأفكار التي تؤثر فيه ويؤثر من خلالها بهم ..
الفرد في أساسه كائن مستقل بذاته له خصوصيته التي يتميز بها عن الآخرين وهو في نفس الوقت جزء لا يتجزأ من تلك الجماعة التي ينتمي إليها، تجد هذا الفرد يمارس نشاطات مختلفة تبدو في الوهلة الأولى أنها تخصه هو فقط ولكن عند التمعن بها نجد أنه يمارسها لجلب عائد له وللآخرين أكان هؤلاء الآخرون هُم الوطن أو المجتمع ككل أو الأفراد الأقرب منه كالأسرة من أب وأم وزوجة وأخ وأخت وأبناء ..
فالمجتمع إذن ناتج عن حاجة كامنة في نفس الفرد أن يعيش بين جماعة وحاجة فطرية أن لا يعيش وحيدا أبدا..هذا المجتمع لم يظهر قبل ظهور الأسرة ،، بل يمكن القول أن المجتمع في أساسه حالة ناتجة عن تجمع أسر قبل تجمع الأفراد ، بمعنى آخر أن تجمع الأفراد أدى إلى تكوّن الأسرة ومن ثم وبعد أن التقت مصالح أسرتين أو أكثر وانتفت أسباب الصراع بينها أدى ذلك إلى تجمعها في مكان جغرافي واحد وأنتج ما يسمى بالمجتمع.. توسَّعَ المجتمع بعد إذ وانتشرت المجتمعات وتكونت الحضارات وكبر معها شعور الفرد بحجم الإنسان والإنسانية ككل وظهرت مفاهيم الإنسانية والعالمية و تقارب الشعوب والحضارات.
الفرد في هذه الحالة يمتزج في داخله الشعور الفردي بالجماعي، تتوسع خصوصيته بتنوع الجماعات من حوله و يزداد مدى شعوره بالآخرين بتوسع دائرة المجتمعات البشرية والحضارات الإنسانية الماضية والحاضرة..
الفرد بخصوصيته المستقلة و بحاجته للإجتماع بالآخرين يمزج بين متناقضين يجب تهذيبهما بشيء من التوازن وعدم طغيان أحدهما على الآخر .. الخطر لا ينتج البتة من وجودهما ولكن من تطرف أحدهما على الآخر..
فالفردية المتطرفة والإحساس بالوجود الفردي والذاتي المبالغ فيه تؤدي إلى اعتداء الفرد على الآخرين وانتهاز العون الضخم الذي يستمده منهم لنهمه الشخصي وأغراضه الفردية دون مساهمته في نصيبه من التكاليف لتلك الجماعة.. دعوات الذاتية والزعم بعدم تضرر المجتمع من الممارسات الشخصية للفرد وانكار حق المجتمع في التحريج عليه في تلك الشئون هي احدى نتائج السلوك الفردي المتطرف للإنسان..
قد تظهر دعوات حق الإختيار دون تأثير من معايير خارجية، ودعوات تحقيق الذات والنظر إلى الحياة على أنها مجموعة قرارات يحق للفرد أن يختار ما يحبه وما يرضاه لنفسه دون ضغط من أحد ودون تدخل أي أحد ودون مراعاة للآخرين من حوله ولو ألحق بهم الضرر، وهي في حقيقتها دعوات أتباع الوجودية الذين يسلكون مبدأ الفردية بشكلها المتطرف الأناني ..
أن يقوم شخص ما باظهار وابراز عدد من المفاهيم التي تخالف الأخلاقيات المستمدة من دين المجتمع المسلم، أو أن يقوم بالدعوة إلى مفاهيم وأفكار وقيم تخالف السائد المتوافق مع دين وعادات وتقاليد المجتمع المسلم ويحاول فرضها بطريقة أو بأخرى عليه أكانت هذه القيم والأفكار مستمدة من قيم غربية أو أفكار إلحادية أو غيرها يعتبر قمة هرم الفردية المتطرفة وحب الذات ومحاولة وأد بنيان المجتمع بسيل الأفكار المتهالكة، وهي في الحقيقة تطبيق للأفكار الوجودية في أرض لا تصلح لها..
النزعة الفردية والركون إلى حب الذات لا ينحصر في قضية الدعوة إلى الأفكار المخالفة للقيم السائدة بل يظهر كذلك في الممارسات والمسالك التي يطبقها الفرد مخالفاً سائد المجتمع كتقليد مجتمعات غير محافظة في بعض السلوكيات ومحاولة إظهارها في مجتمعه..

ومن الغريب جداً أن تجد هؤلاء يرفضون تحريج المجتمع لهم ووقوفه في طريق تحقيق شهواتهم والزعم بأنه يحد من حريتهم ويضع القيود في سبيل تحقيق كيانهم الذاتي ،وقد يظهر أحد مدعي الثقافة والتنوير متأثراً بفكر فرويد وتلامذته بعد أن قرأ له كتاب أو كتابين لينادي محتجاً على المجتمع وداعياً إلى اقتلاع المدافعين عنه بدعوى انهم يكبتون نوازعه الفطرية فتراه يصاب بأوجاع وأمراض نفسية واضطرابات ومشاكل صحية وعصبية ! كل ذلك لأن المجتمع وقف في وجه محاولات تحقيق ذاته بتخريب المجتمع!

هذه النظرة الفردية تقوم في الأساس على نزعة أنانية غير مستقيمة تنظر إلى المجتمع على أنه وحش غاب يحاول الإنقضاض على فريسته و نهش لحمها الطري الغض وتدمير الأحلام الوردية المنبثقة من الذات الحالمة بالإشراق الطاهر القريب للناس جميعاً.. نظرة لا تجلب سوى العار والشنار والفوضى والتصارع بين الأفراد وكل ذلك يودي بالضرر على المجتمع نفسه.

الدعوة المتطرفة ذات النزعة الفردية لا بد أن تُقابل بصدمة رهيبة من قبل أفراد من المجتمع قد تؤدي إلى نتائج وخيمة لدى الفرد وربما تصادمات بداخل المجتمع إن ظهر لتلك الفكرة أتباع ومريدين خاصة في فترة البعد عن المرجعية (الدين في مجتمعنا ) والولوج إلى عالم المادة الكبير .. قد يقول قائل: ومن أين تظهر ردة الفعل المجتمعية الكبيرة ضد فكرة الفرد المخالفة لسائد المجتمع والدين ؟ أقول: ستظهر من قبل المخالفين فكرياً حيث سيبدأون بالهجوم على الفكرة وصاحب الفكرة وكشف عوارها ومساؤها ومن ثم معالجة المتأثرين بالفكرة عن طريق عرض مخالفتها لمرجعية وضررها بالمصلحة العامة وتأثيرها اللامحمود في السلوك الأخلاقي لأفراد المجتمع..

هذه هي حالة عصيان الفرد لسائد المجتمع ولدين المجتمع ولقيم المجتمع الحميدة وهي نزعة متطرفة في الفرد يميل فيها إلى قطب الفردية وحب الذات والتطرف نحو تحقيق مبتغاه ليضر بالآخرين.

هناك تطرف آخر يقابل تطرف النزعة الفردية .. إنه إخضاع الإنسان لنزعة الجماعة ..

محاولة تغييب كيان الفرد وأفكاره وقراراته ومساهماته دائماً ما يظهر في المجتمعات الخاضعة لنير الحكومات الديكتاتورية الفاشستية,, حيث يقوم الفرد المستبد ( الحاكم ) وأعوانه من الحاشية باخضاع المجتمع لسلطانهم القاهر وفرض أفكار ونظم ومسالك محددة عليه، يبدأون بتلقينها إياه منذ طفولته وحتى مشيبه عن طريق الإعلام ومناهج التدريس وتتم مراقبته منذ سني عمره الأولى وحتى دخوله الجامعة بل العمل وانتقاله لمراحل العمر المتقدمة ،، يتم تمجيد النظام والأفكار وجعلها خير أفكار ونظام أخرجت للناس على وجه الأرض فتغيب بذلك شخصية الفرد المستقلة ويبقى هائماً يدلو بدلوه إن قام القطيع بذلك ويكف عن الإدلاء إن توقف القطيع عن ذلك ،، والإدلاء من عدمه لا يكون إلا بأمر الحاكم!

قد يسأل سائل: هل ستغيب ذاتية الفرد غياباً تاماً وبهذا الشكل المطلق؟ سأجيبه: لا لن تغيب.

سيظهر أفراد يحاولون بناء أفكار تعارض الحكم المستبد الجاثم على قلوب الجماعة ، يحاولون نشر فكرهم وقد يحاولون تغيير الواقع ،، ولكن الحكم لن يقف مكتوف الأيدي بل سينشر العيون والجواسيس لمعرفتهم ويبذل كل المجهود للكشف عنهم وسيطبق أفضع العقوبات في حقهم حتى يدجّن القطيع من جديد ويكونون عبرة لمن يعتبر !

وبعد ذلك .. سيسأل سائل من جديد: ألن يظهر آخرون ينزعون لخصوصيتهم ويثوّرون المجتمع ويعارضون الحكم؟!

سأجيب: قد يظهر إن عجز الحكم عن إيقافهم وهم ليسوا كثر وستوجه نحوهم دعاية الإعلام الضخمة ،، يحولون إلى شياطين يحاولون إيقاع المجتمع في باطن الشر وإدخاله في غياهب السراديب المظلمة .. والحكم لن يقف مكتوف الأيدي فهو يعلم أن من يعارض فكر الحكم لا بد أن ينشر أفكاره إلى الاخرين .. لذلك سيهاجم المعارضين بما سبق أن ذكرته وسيفرّغ الطاقة الرهيبة لدى أفراد المجتمع الآخرين في الميادين الحيوانية كي لا يهتمون بنداءات المعارضين وأفكارهم..

لا بد إذن من توازن بين خصوصية الفرد واستقلاله الذاتي وبين الولوج في عالم الجماعة وتيار المجتمع ، لا بد من توازن بين حبه لبناء نفسه والإستقلال بها وبين حبه لمن حوله و إصدار الخير لهم.. خصوصية الفرد واحترام رأيه واستقلاله الذاتي يؤدي إلى الابتكار والإبداع والتطوير في مختلف العوالم والمجالات الفكرية والعلمية ،في عالم الصناعة والقانون وميدان العلم والتقدم ومجال الإقتصاد والسياسة .. والولوج في عالم الجماعة واحترام المجتمع يؤدي إلى زيادة التكافل بين أفراده وتقنين الإختلافات بينهم وبلوغ درجة من التجانس الفكري الذي يبعد الإختلاف ويجلب المنفعة للمجتمع والفرد وبكل تأكيد الوطن..

لا بد من وجود نظام صالح ينظر للإنسان بكتلتيه المكونتين له .. الفردية وحبها للإستقلال ،، والميل الفطري تجاه الجماعة ، نظام يوازن بين متطلبات الفرد والمجتمع .. نظام يعدل للطرفين دون كيل.. وذلك ما يهدف له الإسلام.