15‏/01‏/2010

فـرديّةُ الإنـسـان في وجـهِ الجـمـاعة!!


الإنسان اجتماعي بطبعه غير قادر على الإنعزال الكامل والتجرد عن الأقران جسداً وفكراً وعقلاً ، فلا بد له أن يعيش مع أفراد آخرين ليكوّن تجمع بمفهومه المصغر في الأسرة أو بمفهومه الواسع في المجتمع ويرتبط معهم بمجموعة من المفاهيم والأفكار التي تؤثر فيه ويؤثر من خلالها بهم ..
الفرد في أساسه كائن مستقل بذاته له خصوصيته التي يتميز بها عن الآخرين وهو في نفس الوقت جزء لا يتجزأ من تلك الجماعة التي ينتمي إليها، تجد هذا الفرد يمارس نشاطات مختلفة تبدو في الوهلة الأولى أنها تخصه هو فقط ولكن عند التمعن بها نجد أنه يمارسها لجلب عائد له وللآخرين أكان هؤلاء الآخرون هُم الوطن أو المجتمع ككل أو الأفراد الأقرب منه كالأسرة من أب وأم وزوجة وأخ وأخت وأبناء ..
فالمجتمع إذن ناتج عن حاجة كامنة في نفس الفرد أن يعيش بين جماعة وحاجة فطرية أن لا يعيش وحيدا أبدا..هذا المجتمع لم يظهر قبل ظهور الأسرة ،، بل يمكن القول أن المجتمع في أساسه حالة ناتجة عن تجمع أسر قبل تجمع الأفراد ، بمعنى آخر أن تجمع الأفراد أدى إلى تكوّن الأسرة ومن ثم وبعد أن التقت مصالح أسرتين أو أكثر وانتفت أسباب الصراع بينها أدى ذلك إلى تجمعها في مكان جغرافي واحد وأنتج ما يسمى بالمجتمع.. توسَّعَ المجتمع بعد إذ وانتشرت المجتمعات وتكونت الحضارات وكبر معها شعور الفرد بحجم الإنسان والإنسانية ككل وظهرت مفاهيم الإنسانية والعالمية و تقارب الشعوب والحضارات.
الفرد في هذه الحالة يمتزج في داخله الشعور الفردي بالجماعي، تتوسع خصوصيته بتنوع الجماعات من حوله و يزداد مدى شعوره بالآخرين بتوسع دائرة المجتمعات البشرية والحضارات الإنسانية الماضية والحاضرة..
الفرد بخصوصيته المستقلة و بحاجته للإجتماع بالآخرين يمزج بين متناقضين يجب تهذيبهما بشيء من التوازن وعدم طغيان أحدهما على الآخر .. الخطر لا ينتج البتة من وجودهما ولكن من تطرف أحدهما على الآخر..
فالفردية المتطرفة والإحساس بالوجود الفردي والذاتي المبالغ فيه تؤدي إلى اعتداء الفرد على الآخرين وانتهاز العون الضخم الذي يستمده منهم لنهمه الشخصي وأغراضه الفردية دون مساهمته في نصيبه من التكاليف لتلك الجماعة.. دعوات الذاتية والزعم بعدم تضرر المجتمع من الممارسات الشخصية للفرد وانكار حق المجتمع في التحريج عليه في تلك الشئون هي احدى نتائج السلوك الفردي المتطرف للإنسان..
قد تظهر دعوات حق الإختيار دون تأثير من معايير خارجية، ودعوات تحقيق الذات والنظر إلى الحياة على أنها مجموعة قرارات يحق للفرد أن يختار ما يحبه وما يرضاه لنفسه دون ضغط من أحد ودون تدخل أي أحد ودون مراعاة للآخرين من حوله ولو ألحق بهم الضرر، وهي في حقيقتها دعوات أتباع الوجودية الذين يسلكون مبدأ الفردية بشكلها المتطرف الأناني ..
أن يقوم شخص ما باظهار وابراز عدد من المفاهيم التي تخالف الأخلاقيات المستمدة من دين المجتمع المسلم، أو أن يقوم بالدعوة إلى مفاهيم وأفكار وقيم تخالف السائد المتوافق مع دين وعادات وتقاليد المجتمع المسلم ويحاول فرضها بطريقة أو بأخرى عليه أكانت هذه القيم والأفكار مستمدة من قيم غربية أو أفكار إلحادية أو غيرها يعتبر قمة هرم الفردية المتطرفة وحب الذات ومحاولة وأد بنيان المجتمع بسيل الأفكار المتهالكة، وهي في الحقيقة تطبيق للأفكار الوجودية في أرض لا تصلح لها..
النزعة الفردية والركون إلى حب الذات لا ينحصر في قضية الدعوة إلى الأفكار المخالفة للقيم السائدة بل يظهر كذلك في الممارسات والمسالك التي يطبقها الفرد مخالفاً سائد المجتمع كتقليد مجتمعات غير محافظة في بعض السلوكيات ومحاولة إظهارها في مجتمعه..

ومن الغريب جداً أن تجد هؤلاء يرفضون تحريج المجتمع لهم ووقوفه في طريق تحقيق شهواتهم والزعم بأنه يحد من حريتهم ويضع القيود في سبيل تحقيق كيانهم الذاتي ،وقد يظهر أحد مدعي الثقافة والتنوير متأثراً بفكر فرويد وتلامذته بعد أن قرأ له كتاب أو كتابين لينادي محتجاً على المجتمع وداعياً إلى اقتلاع المدافعين عنه بدعوى انهم يكبتون نوازعه الفطرية فتراه يصاب بأوجاع وأمراض نفسية واضطرابات ومشاكل صحية وعصبية ! كل ذلك لأن المجتمع وقف في وجه محاولات تحقيق ذاته بتخريب المجتمع!

هذه النظرة الفردية تقوم في الأساس على نزعة أنانية غير مستقيمة تنظر إلى المجتمع على أنه وحش غاب يحاول الإنقضاض على فريسته و نهش لحمها الطري الغض وتدمير الأحلام الوردية المنبثقة من الذات الحالمة بالإشراق الطاهر القريب للناس جميعاً.. نظرة لا تجلب سوى العار والشنار والفوضى والتصارع بين الأفراد وكل ذلك يودي بالضرر على المجتمع نفسه.

الدعوة المتطرفة ذات النزعة الفردية لا بد أن تُقابل بصدمة رهيبة من قبل أفراد من المجتمع قد تؤدي إلى نتائج وخيمة لدى الفرد وربما تصادمات بداخل المجتمع إن ظهر لتلك الفكرة أتباع ومريدين خاصة في فترة البعد عن المرجعية (الدين في مجتمعنا ) والولوج إلى عالم المادة الكبير .. قد يقول قائل: ومن أين تظهر ردة الفعل المجتمعية الكبيرة ضد فكرة الفرد المخالفة لسائد المجتمع والدين ؟ أقول: ستظهر من قبل المخالفين فكرياً حيث سيبدأون بالهجوم على الفكرة وصاحب الفكرة وكشف عوارها ومساؤها ومن ثم معالجة المتأثرين بالفكرة عن طريق عرض مخالفتها لمرجعية وضررها بالمصلحة العامة وتأثيرها اللامحمود في السلوك الأخلاقي لأفراد المجتمع..

هذه هي حالة عصيان الفرد لسائد المجتمع ولدين المجتمع ولقيم المجتمع الحميدة وهي نزعة متطرفة في الفرد يميل فيها إلى قطب الفردية وحب الذات والتطرف نحو تحقيق مبتغاه ليضر بالآخرين.

هناك تطرف آخر يقابل تطرف النزعة الفردية .. إنه إخضاع الإنسان لنزعة الجماعة ..

محاولة تغييب كيان الفرد وأفكاره وقراراته ومساهماته دائماً ما يظهر في المجتمعات الخاضعة لنير الحكومات الديكتاتورية الفاشستية,, حيث يقوم الفرد المستبد ( الحاكم ) وأعوانه من الحاشية باخضاع المجتمع لسلطانهم القاهر وفرض أفكار ونظم ومسالك محددة عليه، يبدأون بتلقينها إياه منذ طفولته وحتى مشيبه عن طريق الإعلام ومناهج التدريس وتتم مراقبته منذ سني عمره الأولى وحتى دخوله الجامعة بل العمل وانتقاله لمراحل العمر المتقدمة ،، يتم تمجيد النظام والأفكار وجعلها خير أفكار ونظام أخرجت للناس على وجه الأرض فتغيب بذلك شخصية الفرد المستقلة ويبقى هائماً يدلو بدلوه إن قام القطيع بذلك ويكف عن الإدلاء إن توقف القطيع عن ذلك ،، والإدلاء من عدمه لا يكون إلا بأمر الحاكم!

قد يسأل سائل: هل ستغيب ذاتية الفرد غياباً تاماً وبهذا الشكل المطلق؟ سأجيبه: لا لن تغيب.

سيظهر أفراد يحاولون بناء أفكار تعارض الحكم المستبد الجاثم على قلوب الجماعة ، يحاولون نشر فكرهم وقد يحاولون تغيير الواقع ،، ولكن الحكم لن يقف مكتوف الأيدي بل سينشر العيون والجواسيس لمعرفتهم ويبذل كل المجهود للكشف عنهم وسيطبق أفضع العقوبات في حقهم حتى يدجّن القطيع من جديد ويكونون عبرة لمن يعتبر !

وبعد ذلك .. سيسأل سائل من جديد: ألن يظهر آخرون ينزعون لخصوصيتهم ويثوّرون المجتمع ويعارضون الحكم؟!

سأجيب: قد يظهر إن عجز الحكم عن إيقافهم وهم ليسوا كثر وستوجه نحوهم دعاية الإعلام الضخمة ،، يحولون إلى شياطين يحاولون إيقاع المجتمع في باطن الشر وإدخاله في غياهب السراديب المظلمة .. والحكم لن يقف مكتوف الأيدي فهو يعلم أن من يعارض فكر الحكم لا بد أن ينشر أفكاره إلى الاخرين .. لذلك سيهاجم المعارضين بما سبق أن ذكرته وسيفرّغ الطاقة الرهيبة لدى أفراد المجتمع الآخرين في الميادين الحيوانية كي لا يهتمون بنداءات المعارضين وأفكارهم..

لا بد إذن من توازن بين خصوصية الفرد واستقلاله الذاتي وبين الولوج في عالم الجماعة وتيار المجتمع ، لا بد من توازن بين حبه لبناء نفسه والإستقلال بها وبين حبه لمن حوله و إصدار الخير لهم.. خصوصية الفرد واحترام رأيه واستقلاله الذاتي يؤدي إلى الابتكار والإبداع والتطوير في مختلف العوالم والمجالات الفكرية والعلمية ،في عالم الصناعة والقانون وميدان العلم والتقدم ومجال الإقتصاد والسياسة .. والولوج في عالم الجماعة واحترام المجتمع يؤدي إلى زيادة التكافل بين أفراده وتقنين الإختلافات بينهم وبلوغ درجة من التجانس الفكري الذي يبعد الإختلاف ويجلب المنفعة للمجتمع والفرد وبكل تأكيد الوطن..

لا بد من وجود نظام صالح ينظر للإنسان بكتلتيه المكونتين له .. الفردية وحبها للإستقلال ،، والميل الفطري تجاه الجماعة ، نظام يوازن بين متطلبات الفرد والمجتمع .. نظام يعدل للطرفين دون كيل.. وذلك ما يهدف له الإسلام.

24‏/12‏/2009

سقطات عقل إنساني (1)


كان لداروين وافكاره وقع كبير لدى هواة التفسير المادي للتاريخ والذين أخذوا بزمام تلك الأفكار وانطلقوا من خلالها في بناء عديد من رؤاهم وتصوراتهم لعالم الإقتصاد وعلم الإجتماع ..

كانوا يرتكزون على ثلاث من الأسس والنقاط الجوهرية والرئيسية المستمدة من الداروينية، أولها: عدم الإعتراف بالله مسيّراً لهذا الكون والقول بالطبيعة بدلاً من ذلك.وثانيها: القول بأن الكائنات الحيّة تتخذ مساراً حتمياً يظهر عن ضغط البيئة المحيطة الخارجية ومحاولة الكائنات التكيف في هذه الحالة مع المحيط والذي يؤدي بدوره إلى انقراض عدد من الأعضاء وظهور أخرى تتوافق مع المحيط. أما الثالثة فهي النظرة المادية الحيوانية إلى الإنسان واعتباره مادة وجسد وآله وتهميش دور الجانب الروحي والقيم العليا ومحاولة نفيها.

من هذه الأسس الثلاث انبثقت النظرة المادية للتاريخ، وبدأت صياغة المنطق القائل بالتطور ونقله من عالم الأحياء إلى عالم الإقتصاد والإجتماع .. كان الماديون يقولون بظهور المجتمع الشيوعي كتطور أخير للحضارة المادية الأوروبية وهو تطور حتمي لا بد الوصول إليه طال الزمان أم قَصر..

الإنتقال نحو الشيوعية لا يكون إلا بعد خطوات طويلة تخضع لحركة العالم الدائبة المليئة بالتناقضات وإجتماع الأضداد! ولا بد من أجل تفسير هذه التناقضات والأضداد المجتمعة في حركة العالم من منطق يوضحها ويبينها ،لذلك ظهر المنطق الجدلي الديالكتيكي المعاكس للمنطق الصوري القائل بنفي اجتماع التناقضات والأضداد.

المجتمع بدأ من الزراعة فالرق ثم الإقطاع وبعدها انتقل للصناعة حيث التخلص من الإقطاع ومن ثم التحول التلقائي إلى الشيوعية ،، وكل تلك المجتمعات السابقة للشيوعية كانت تحتوي على متناقضات اجتمعت لتؤدي إلى انهيار النظام والتخلص منه والتحول إلى نظام أرقى حتى الوصول إلى الشيوعية ( الأكمل والأعلى في نظرهم ).. وكما هو واضح من التسلسل أعلاه ، نجد من خلال النظر إلى الأنظمة والمجتمعات المتتالية أن الإنسان في نظرهم ليس سوى مادة نفعية بحته وظيفته اقامة المجتمعات المتصارعة من الداخل والمنهارة بعد حين على أكتافه المسحوقة حتى بلوغ المجتمع الشيوعي القائم على جماجم العمال الكادحين .

يقول كارل ماركس في أحد الكتب" إن الوحدة الحقيقية للعالم تنحصر في ماديته .. ولكن إذا سألنا: وإذن ما هو الفكر وما هو الشعور ومن أين ينبعثان ؟ يتضح لنا أنهما نتاج الدماغ البشري، وأن الإنسان نفسه نتاج الطبيعة" ، ويقول في مكان آخر:" إن الأفكار يبتدعها دماغ الإنسان ،وهذا الدماغ ليس إلا مادة دقيقة التركيب وهو جزء من الجسم يعكس مؤثرات العالم الخارجي"،، من هنا نستشف أن المشاعر كلها والأفكار كلها هي في الأساس تتشكل و تظهر وتنتج من خلال الدماغ الناتج عن الطبيعة وأن المشاعر والأحاسيس كلها نتاج لمؤثرات خارجية فقط! إنه الإيمان الكاسح بجانب على آخر ، الإيمان بالجانب المادي للإنسان على أي قيمة روحية عليا أخرى ، الإيمان بأن الأخلاق والقيم والمبادئ وكل ما يتعلق بروح الإنسان ليس سوى مجموعة من النتائج الظاهرة عن التفاعلات الإقتصادية في المجتمع!

إذن لا يوجد أي كيان ثابت اسمه " الإنسان" كما يقول هواة التفسير المادي للتاريخ ، فالإنسان وليد البيئة التي يعيش بها وابن المؤثرات الخارجية عليه .. هو مجموعة استجابات لذاك الوسط ، ينطبع به ويبقى كما هو عليه لا تربطه أي صلة بإنسان من بيئة أخرى فكل المشاعر والأحاسيس نتاج تفاعلات المال والأعمال!

الكيان الإنساني ليس كذلك ،، هو كيان لا تنشئة المؤثرات الخارجية والبيئات المختلفة ، بل هو كيان تبطن بداخله كثير من القوى التي تظهر وتخفت بتأثير البيئة ولا تنشأ بها.. نعم قد تسيطر المؤثرات الخارجية على الإنسان ولكنها ليست حتمية لا تجد أمامها أي منافس ، بل هناك إرادة الإنسان وقدرته التي يمكنها أن تتفاعل مع هذه المؤثرات وقد تُخضعها وتوجهها إلى طريقها الذي ترغب به.

هذه النظرة إلى الإنسان بالنسبة إلى هواة التفسير المادي للتاريخ لا تختلف بتاتاً عن نظرة أبناء الرأسمالية الغربية إليه ، فجميع هذه الأفكار إنبثقت من معين واحد ومصدر واحد بدئاً بالثورة على الكنيسة مروراً بفلاسفة الأنوار كفرانسيس بيكون وتوماس هويز وديكارت وآخرين وأفكارهم تجاه العقل واستنكارهم لكثير من أفكار الدين وبعدها الإفتراق والإنقسام الذي شكل هاذين الفكرين المتنافسين في إقامة المجتمعات وإزالة أخرى وإستعباد الإنسان وسلخه من كل القيم الروحية السامية ..

جون لوك ونيوتن يعتبران من أهم ممدي حركة الإستنارة بالزاد العقلي والكوني ، فالأول أمد حركة الإستنارة برؤية مادية للعقل وطريقة تفكيره والآخر أمدها برؤية حول الكون وكيفية تحركه،، ومن هنا انفجرت الكتابات المتأصلة في طريقي العقل والكون وكيفية الإقتران بينهما ومحاولة السير بالإنسان بعيداً عن عالمه السابق المليء بالتقهقر الفكري والعلمي والذي فتح آفاقاً واسعة للمعرفة المستقبلية وللبناء الحضاري المادي مع ما أنتجه من سلبية في الجانب القيمي والروحي.

هذه السلبية في الجانب القيمي والروحي ازدادت شططاً وبعداً عن التوغل والتعمق في الجانب العلمي والعقلي والإبحار الواسع في بناء الآلة والتفوق في الإكتشافات العلمية، وكل هذا الشطط بين الجانبين كان له دور واسع في إدارة محركات الزمن باتجاه حوسلة الإنسان وتحوله إلى آلة منتجه لأكثر المذاهب الفكرية تطرفاً وتغلغلاً في المادية لذلك برز أدعياء التفسير المادي للتاريخ وظهر في جانب آخر مقابل لهم أدعياء الرأسمالية الغربية ..

يُتبع في يوم غير معلوم.


01‏/12‏/2009

الموت والميلاد والظلام والضياء (2) .

ما أكتبه هنا مكمل للجزء الأول :

الموت والميلاد والظلام والضياء (1) .

.

.

.


رفعت قلمي مرة أخرى وبدأت إكمال الرسالة :

( أما سقراط الفيلسوف، صاحب الطريقة الجدلية الشهيرة في استقراء الحقائق للوصول إلى الأفكار، ومعلم أفلاطون والمؤرخ زينفون فقد كانت له نظرة أخرى للموت ولها ما يكرسها من ظرف عظيم واجهه صاحبه . تجلت نظرة سقراط للموت في شجاعته عند مواجهة حكم الإعدام بالسم ، فقد حُكم عليه بالإعدام عن طريق شرب كأس من السم يفرغه في فمه بنفسه ، وقد قيل أن شجاعته هذه ورباطة جأشه هدفها إيصال رسالة إلى تلاميذه والآخرين تقول بإمكانية انتقال حالة الجسد والروح إلى نوم في سلام لا تقض مضجعه الأحلام أو انتقال للروح إلى عالم آخر وكأنه يبث فكرة أن لا خوف من الموت وما بعده فالقادم خير لا محالة ، فسقراط كما تحدث عنه أفلاطون في احد محاوراته كانت له آراء في خلود النفس ما بعد الموت والتأطير لنظرية المثل التي طورها أفلاطون والتي تقول بأن هناك مُثلا للأشياء لا يمكن الوصول إليها وإنما يطلق على الأشياء بأسماء تلك المثل لا غير ، فشخص ما يوصف بالجمال ولكنه لا يبلغ الجمال المثالي وشخص آخر يوصف بالذكاء وهو ناقص عن بلوغ الذكاء المثالي ، وكل هذه المثل موجودة في عالم اللامحسوس ، وهي مما تدرك بالذهن لا بالحس ومن يدركها فقط بلغ المعرفة الحقة.

للأسف فسقراط لم يبقي أي موروث كتابي ، وكل ما وصل إلى الأجيال المتأخرة نقله عنه تلميذيه أفلاطون وزينفون في الحوارات والنقاشات التي جرت بينهم وهذا ما يلبد الغيوم على أفكاره بعض الشيء..

أما افلاطون فقد كان نابغة من نوابغ الفلسفة ولآرائه أثر كبير على العلوم التي تناقلتها الحضارات فيما بعد وطورتها .. حيث كانت له أفكار كثيرة كآرائه في المدينة الفاضلة ونظرية المثل وتقسيماته للنفس والدولة ، أما رأيه في الموت وهو ما نبحث عنه فقد كان يقول بخلود الروح والنفس وهي في اصلها أفكار أطلقها الكاتب يوربيدس في تسائلاته عن الموت والحياة ثم انتقلت كفلسفة أضاف عليها فيتاغورث ليتبناها أفلاطون بعدهم ويدعمها بحجج وبراهين ونظريات .. فقد كان يعتقد بأن الروح عند قدوم الموت تهرب من سجن الجسد إلى عالم المُثل في اللامحسوس ثم تعود مرة أخرى إلى جسد آخر ومن هناك تبدأ تلك الروح بمساعدة صاحبها في الوصول إلى المعرفة الحقة عن عالم المثُل بما خبرته من ذاك العالم عند ولوجها إليه هاربة من الموت الذي أودى بصاحبها الأول ..

هناك كذلك الأبيقورية والرواقية الإغريقية والأخرى الرومانية وردود الديانة المسيحية على مختلف الأفكار الموروثة عن هذه المدارس والفلسفات وأرى أن أكتفي بهذا القدر حديثاً عن الإغريق ونظرة فلاسفتهم للموت ، ليس لعدم أهمية المسكوت من قبلي عنه ولكن لأنتقل إلى حضارات أخرى وأخص حضارة الهند ونظرتها للموت ولغزه ولأضع أمامك كتاب الفسلفة اليونانية والغربية بعد ذاك كي تبحث عن البقية بنفسك وتلج هذا العالم بقدميك .

لا أخفيك سراً أخي اللبيب أني لم أتعمق في حضارة الهند وفلسفاتها كما تعمقت وقرأت عن بني الإغريق وثقافتهم ولم أبحر في مكنونات الديانات الهندية كما أعملت جهدي في قراءة المد والجزر في الثقافة الإغريقية وحيثيات الديانات والأفكار بها ومع ذلك سأخوض في أرض ليست بأرضي ومياه ليس لقاربي لها أي قريب أو خليل واعذرني هذه المرة في كون تقصيري سيبلغ أرض لغز الموت فلن أكثر الحديث عنه بل سأمر عليه مرور الكرام باشارت مختصرة عند الحديث الموسع عن الديانات في بلاد الهند والفلسفات والأفكار الأخرى.

حضارة الهند أيها الصديق العزيز حضارة كبيرة عريقة فيها أقوام كثيرة ،دياناتها متعددة لا تحصى و تنطق بألسنة تضاهي عدد دياناتها ،كان البحارة من عُمان والخليج وعديد من البلدان يسافرون بحراً وبراً إلى الهند ،يشتغلون بالتجارة ويقتبسون معها فوائد جمة كثيرة ،من هناك انبثقت علوم وفلسفات وكتب ومجلدات وتواريخ وأحداث لها مكان بائن في سجل التاريخ الحضاري للأمم جمعاء ..

الهند يا صاحبي تتكون من عرقيات كثيرة أكبرها الهنود الآريون وهم أساس الديانة الهندوسية وتليهم الهنود الدرافيديون وكما سمعت والله أعلم بحقيقة الأمر أنهم أقدم شعوب سكنت شبه القارة الهندية أتوا إليها من ساحل بحر الروم أو المتوسط كما يسمى وانتقلوا بين الجبال والوديان حتى بلغوا ارض الهند ليستقروا بها وهناك أقوام أخرى كثيرة ذات أصول مختلفة وتاريخ أخلف تشكل أقليات في تلك البلاد.

على أن ما يهمني أكثر أن هذا التنوع في المزيج العرقي في بلاد الهند والكثافة السكانية الكبيرة على امتداد جغرافي واسع متنوع التضاريس ومكتنز بخيرات وفيرة أدى إلى انتاج حضارة هائلة عبقرية في مجالات كثيرة وليس عنك ببعيد نقل العرب وترجمتهم لكتب علماء الهند في الفلك والرياضيات وبعض الفلسفة و لا تنسى أثر النقل لتلك الفلسفة في العقلية العربية في فترة من الفترات وتأثر المطلعين على تلك الفلسفات وما تحويه من فكر أديان وضعية أو ما أثير حول بعضها أنها سماوية ، أقول أن البعض قد تأثر بأفكار تلك الأديان وأصبح يحمل اعتقادات يمزجها بمعتقداته الإسلامية ويظهر مزيجاً مختلفاً ألوانه يبث على أساسه ومن معينه خليطاً فاسداً يحاول من خلاله إضلال الناس وحرفهم عن طريق الصواب وقد تصدى لهذا الفكر علماء مسلمون كثر، ألفوا وكتبوا ودافعوا عن العقيدة الإسلامية بكل جهدهم وكان روادهم في ذلك طائفة المعتزلة بعلمائها اللوامع كالقاضي عبد الجبار وواصل بن عطاء والجاحظ وآخرون أخذوا يكتبون في الرد على مطاعن الزنادقة في الدين الإسلامي وأركانه ومحاولات اثارة الشبهات التي اتبعها أولائك.

أيها الصديق قد تراني أصف حضارة الهند بالعبقرية تارة واصم من تأثر بفلسفاتها وأديانها لينال من الدين الإسلامي بالزندقة والإرتداد والكفرية تارة أخرى وقد تحسب أنه تناقض لا يجب علي سلوكه .. يا صاحبي المفضال اصفها بالعبقرية لأنها شكلت مدنية وثقافة ومنتوج حضاري هائل ، مدنية بالسلوك اللامتجانس بين سكان البلاد الهندية ، فالجميع بمختلف تكوين هذا الجمع من الأفراد له سلوكه وتصوره ومعتقده ليشكل مدنية كبيرة هائلة تطبع البيئة معالمها على جسد وسلوك وفكر ساكنها، وثقافة يتحلى بها أهل تلك الديار يتميزون بها عن آخرين من مختلف البلدان وقد يكون من أهمها الإرادة والكفاح المستمرين وهي ميزة تجدها عند كل هندي .. هذان التشكيلان ينتجان حضارة يضاف إليها القيم الفكرية من معتقدات وفلسفات وأفكار والمنتوج المادي من صناعات و تجارة وعمران وغيرها..

نعم لقد أنتجت حضارة ذات تنوع كبير جداً قد أتفق مع هذا الإنتاج في الكثير وأختلف في الكثير كذلك مما يخالف مبادئ ديني الحنيف.

سأبداً بالديانة الهندوسية والتي يعتنقها معظم أبناء الهند ويعتقدون بها. الهندوسية أسستها أقوام الهنود الآريون القادمون من ضفاف بحر قزوين ، لهم كتاب مقدس يسمى بالفيدا يتكون من مجموعات كتابية تصل كما بلغني إلى أربعة عشر مجموعة ..

تنقسم هذه الديانة إلى فرق عديدة كل واحدة تعبد إله مختلف ، فقسم يعبد شيفا وقسم يعبد فيشنو وآخرون يخضعون لبراهما ، ولكل إله من هؤلاء مهمة خاصة به فشيفا إله الدمار والفناء وينسب إليه إهلاك العالم وتدميره وفيشنو إله الحب و السلام ويساعد البشر ويغذيهم بالحياة وله مكان بائن في الشعائر الهنودسية ، أما براهما فهو الخالق والمخلوق عندهم كما تقول الدراسات التي اطلعت عليها وظهور هذا الخالق والمخلوق مزيج من العدم والوجود، أي مزيج من ضدان، ولا أدري كيف يجتمع الضدان ! فبراهما هذا تأمل ثم فكر وأدى تفكيره إلى نشوء فكرة أنتجت بذرة ومن تلك البذرة خُلق براهما الذي خلق كل شيء!

أسفل هذه الجماعات الهندوسية تتمايز الحياة بين العابدين إلى خمس فرق وهم كالتالي:

الأولى : طبقة البرهميين ويمثلها القساوسة والعلماء ورجال الدين.

الثانية : طبقة الكاشتري أو الحمراء ويمثلها الحكام والجنود والإداريون وذوي الطبقات المخملية.

الثالثة : طبقة الفيزية أو الصفراء ويمثلهم الفلاحون والتجار والمزارعون.

الرابعة: طبقة السودرا أو السوداء وهم النساجون والخدم وغيرهم.

أما الطبقة الخامسة فهي أدني طبقات الديانة الهندوسية ويعتبر ممثلوها من المنبوذين والمحتقرين من قبل الطبقات العليا في الديانة بل يصل الأمر إلى معاملتهم بقسوة و تفضيل بعض أنواع الحيوان عنهم ورفض لمسهم والإختلاط بهم ،ويسمى هؤلاء بالشودرا أو المنبوذين.

يعتبر تناسخ الأرواح أساس نظرة الديانة الهندوسية إلى الموت ، فعندهم أن الإنسان بعد موته تنتقل روحه من جسد إلى آخر وأعماله هي التي تحدد طريق الإنتقال وإلى أين سيكون الإنتقال ، فإن كانت أعماله خيّره انتقلت روحه من جسده بعد موته لتتحد من الروح الكلية ، واختلف بعضهم في ذلك وقالوا بأنها تتحد مع الإله براهما ، أما إن كانت أعماله غير خيّره فإنها تنتقل من جسد إلى آخر دون الخروج من دائرة الأحياء وبعضهم قال بأن الروح تنتقل من جسد الإنسان إلى جسد كلب إلى جسد أقل فأقل مرتبة في السلم الأحيائي.

لذلك تجد أيها الصديق اهتمام الهندوس بتهذيب النفس واهمالهم للجسد ، فهم يمارسون رياضة تسمى باليوجا يدخلون من خلالها في فضاء روحاني وعالم تهذيبي للنفس ويطبقون فيها حركات قاسية بعض الشيء على الجسد وعند انقضاء عمر الإنسان فإنهم يقومون بحرق جسده وذر رماده في نهر مقدس عندهم اسمه الغانج محاولة منهم للإستغلال الروح الإنسانية وتسهيل اتحادها بالروح الكلية.

الحديث عن الديانة الهندوسية حديث طويل ولا يكفي أن أدونه في هذه الرسالة يا صديقي وذلك لعراقة وتاريخ الديانة الهندوسية وتشعبها وتعمقها في الحضارة الهندية منذ قرون طويلة غابرة لذلك أتوقف هنا وأنتقل إلى الديانات الأخرى في بلاد الهند راجياً منك أن لا تكتفي بما أدونه هنا عنها وأن تتوسع اكثر في سبر أغوار المعرفة بالديانات المنتشرة في هذه المعمورة والتي من خلالها يمكننا التيقن أكثر فأكثر من عظمة الإسلام والنعمة التي وهبها الله إلينا بأن ولدنا مسلمين نخضع كياننا كله لله الواحد القهار .

يُتـبع في جزئه الثالث .