28‏/09‏/2009

ما لنا ولهذا الشر يا صديقي !




هذا حوار أكتبه هنا بين أيديكم ، طويل بعض الشيء .. أعلم أني متأثر فيه كثيراً بأحاديث لعباس العقاد .. ولكن لا ضير في ذلك ستستمتعون كثيراً بقرائته ..
صاحبي حزين ، تكاد تنفجر الدموع من عينيه كلما تابع نشرة أخبار وقد تتسلل بعضها على خديه خفية فيكشفها ويردي بها سريعاً .. تحزنه كثيراً مشاهد القتل والدمار والحروب والمجاعات والأوبئة التي تتداول أخبارها القنوات يومياً ، ويضرب أخماساً على أخماس بعد انتهاء نشرة الأخبار والتيقن من حال العرب والمسلمين المتجدد إلى الأسفل .. لا يتأسف فقط لحال العرب والمسلمين ولا تنأى مشاعره عما يحدث في عوالم أخرى يقطنها الإنسان فأولئك من بني البشر وتربطنا معهم علاقة الإنسانية فهو يحزن لهم كثيراً وما يحيق بهم من شر.. انا أتفهم شعوره جيداً ، وأفهم الحال الذي يحس به ، وربما أصاب ببعض مما هو فيه من هم وحزن عند مشاهدة الكوارث والآفات المنتشرة في طول المعمورة وعرضها .
ذات ليلة قمرية من ليالي يناير الباردة جلسنا أنا وهو وبعض الشباب جلسة جميلة على أحد الشواطئ يحفها شراب الشاي الساخن والذي يضفي على الحوار سخونة تزيد من حرارته التي ألهبها الحديث الجديد علينا هذه المرة ! فقد كان موضوع هذه الجلسة يتجاوز الأسلاك الحمراء ويقفز إلى نقاط بعيدة عن مواضيعنا المعتادة ، فهو ليس فقهي ولا تاريخي ولا علمي يمكن لأي أحد أن يفتي فيه بسهولة بعد قراءة كتاب أو كتابين بل فلسفي عقدي فكري يمزج بين الثلاثة جيداً ويطرح أسئلة من العيار الثقيل ..
حوارنا الجديد فجّره صاحبنا وبدأ فيه بإطلاق أوّل رصاصة قائلاً:
يا لجمال هذه الجلسة وجمال الوجوه وجمال الحديث هنا ،، جمال تزخرفه أصوات الأموج الهادئة وأنوار القمر الباهرة وهدير محركات تأتي من بعيد .. أنتم تعيشون حياة هنيئة وأنا معكم أتقاسم الخير كله .. نمضي في حياتنا وتسير بنا الأيام من صباحها لمسائها مليئة بالخير لا يقض مضجعها أي حزن ولا شر .. حياتنا كلها خير والحمد لله ..
ولكن ، لمَ لا يعم هذا الخير كل الأرجاء ؟ لمَ خلق الله شراً يحيق ببني الإنسان وهم عباده ؟ لمَ لا يحلق هذا الكون بنور الخير عالياً عن دركات الشر ومهابطه ؟ لماذا نرى الحروب والأمراض والأوبئة والمجاعات تجتاح ديار العباد ؟ ألا ترون أن تقدمنا في الزمن يزيد من مستوى الشر وانتشاره أكثر فأكثر ؟!
أجيبوني يا اخوان فعقلي يكاد ينفجر ..
تسمرت نظرات الجميع إليه وبدأ كل واحد يقذف مئات من علامات التعجب والاستفهام عن السائل وغرضه والسؤال و هدفه وسببه وإمكانية الإجابة عليه وعن منطقيته من عدمها..
قلتُ في نفسي ما لنا ولهذه الأسئلة الآن ؟! ومن يمكنه الإجابة عنها .. أخرجت ما في نفسي من كلام على العلن موجهاً به إلى صاحبي : يا صاحبي ما لنا ولهذا الشر ؟! شر السؤال والفكرة .. أنت تبحث عن إجابات لشكوك ومن يشك يفتح لنفسه أبواباً أخرى من جحيم الشك وقد تقود به إلى درجة من الجنون المتدرج ومن ثم الإلحاد والعياذ بالله.
نظر إليّ أحد الحاضرين هناك نظرة استنكار وعدم رضا على جوابي المتهور البعيد عن الحكمة والتروي ، كان ذاك الثلاثيني تبدو الحكمة و غزارة العلم على وجهه ، فسيماه يبدي مَن خَبِر الأحداث بين الكتب وزاحم العلماء حتى الركب ..
قال لي : اهدأ يا أخي فما هكذا تورد الإبل ..
خجلتُ من نفسي وتهوري وغطيت وجهي بلهب من الجهل.. ابتسمت للثلاثيني اشارة على تقبل النصيحة .
بعدها بدأ بالكلام متحدثاً عن القضية بشيء من التفصيل..
يقول الثلاثيني : ما تقوله يا صاحبي ليس بالجديد وليس بالبدعة من نتاج العقل الإنساني فقد قاله قبلك الكثير وسأل عنه العديد وناقشته أيدي الحكماء وأفواه علماء الأديان..
وتجلى كثيراً لدى من اتخذ إلهين إله للنور وإله للظلام يحاول من خلاله حل التناقض الحاصل في عقله عن عدم إمكانية اجتماع النقيضين – الخير والشر – في كائن واحد.
وهو وكما تراه حل ينتجه عقل ما ولكنه ومع ذلك لم يرقى إلى الصحة أبداُ ولم يرضي المؤمنين الموحدين والمتيقنين أن لهذا الكون إله واحد رب السموات والأرض وما بينهما .. لذلك كان لا بد من النظر إلى المسألة باتجاه آخر.
هذا الإتجاه يأخذ بالمسألة إلى مسارين من الحلول .. حل الوهم وحل التكافل بين أجزاء الوجود ..
قاطعه أحد الحضور بعد أن حك رأسه مرتان دليل استفهام وتعجب : حل الوهم وحل التكافل بين أجزاء الوجود ؟! اشرح أكثر لم نفهم.
أكمل الثلاثيني كلامه قائلاً : نعم حل الوهم وحل التكافل بين أجزاء الوجود ، هذان الحلاّن يا أصحاب وكما أراهما الآن قد يصرع أحدهما الآخر عند مقارنة المتسائل بينهما والنظر فيهما .. وسأبين لكم ماهيتهما وباختصار موضح..
حل الوهم يا أصحاب يقول بأن الشر والألم وهم لا حقيقة له وهو عرض زائل يتبعه الخير واللذة الدائمة .. وكما ترون يا أصحاب فالجميع هنا يفضلون الخير الموهوم على الشر الموهوم واللذة الموهومة على الألم الموهوم فكلاهما وهم ويمكن أن يحل الخير وهو الأفضل مكان الشر فالإمكانية موجود للقيام بذلك دون عناء فالمسألة تندرج تحت قضية اللاضرورة في إظهار الألم وبالتالي إمكانية دفع هذا الوهم بوهم آخر يندرج تحت الخير واللذة .
وقد رأى كثير من الفلاسفة والمفكرين عدم قوة هذا الحل وهذا ما يجرنا إلى الحديث عن الحل الآخر .
وهو حل التكافل بين أجزاء الوجود .
فهذا الحل يقول أن الشر في أصله لا يناقض الخير بل هو متمم له ..
نظرَ الثلاثيني إلى وجوه الحاضرين ثم أردف قائلاً : هل المسألة واضحة ؟!
أجبته أنا : بصراحة لا ، وضح أكثر وأرجو أن تفصل في هذه النقطة فهي مثيرة كما تبدو لي وستجرنا إلى حديث أكثر حرارة .
أجاب : سأوضح ولا يهمك .. الشر كما قلت لا يناقض الخير في جوهره بل هو متمم له وشرط لازم لتحقيقه.
كيف ذلك ؟
سأشرح أكثر ..
لا معنى للصبر بغير الشدة ولا معنى للشبع بدون الجوع ولا معنى للشجاعة بدون الخطر ولا معنى للري بدون العطش ولا معنى للصحة بدون المرض ولا معنى لفضيلة بدون نقيصة وهلم جرّا .. لذلك ومن كل ذلك نستنتج أن لا خير من دون شر ولا معنى للأول من دون الثاني ، فالشر متمم للخير وشرط لحدوثه .
أنتفض صاحبنا الحزين المتأسف على حال العالم المليئ بالأحداث المحزنة قائلاً :
كلامك جميل ورائع وأجاب على كثير من تساؤلاتي ولكنه أنتج أسئلة أخرى .. لماذا وجب أن يظهر هذا التكافل في طبيعة هذا الوجود ؟ لماذا لا بد أن يكون الشر شرطاً لفهم الخير ولماذا لا تكون الفضيلة فضيلة إلا بوجود النقيصة ؟ أليس خلق اللذة والخير ألوى برحمه الآله الرحيم من خلق الألم ؟
أطرق الثلاثيني لبرهة ثم أجاب باسماُ :
ها قد عرضت عليك الحلول العقلية وأرى أن تساؤلاتك الآن تندرج تحت إطار المشاعر لا أكثر .
سأسير قليلاً بحديثي لمسار آخر وكأنني أحدث ملحداً يحاول نشر بعض الألاعيب ويدحض فكرة وجود الخالق من الأساس ، لا أقصدك أنت بالملحد وبهذا التشبيه حاشاك وأبعدك عن طريق الزلل والعصيان ولكن فقط من أجل أن أوضح ما أريد الحديث عنه ..
أقول .. إذا كان الإله الذي تظهر في خلقه النقائص والعلل ليس إلها يبلغ درجة الكمال المطلق ، فكيف يكون هذا الإله ذو الكمال المطلق في تصورنا ؟
هل يجب أن يكون إلها ولا يخلق أي عالم من العوالم وبالتالي وجب أن يكون ذو كمال مطلق ؟
أم يجب أن يخلق عالماً يشابهه في الصفات والبعد عن النقائص حتى يعتمل في عقولنا أنه إله ذو كمال مطلق ؟
كِلا الأمرين يستحيلان ويبتعدان أشواطاً وأميالا عن المعقول ..
فالأولى تجعل لا معنى للقدرة عند الإله ذو الكمال المطلق ما لم يمكنه من خلق عالم من العوالم .. فانتقض بذلك وصف الكمال المطلق عند الإله بغياب صفة القدرة عن الخلق ..
أما الثاني فالكمال المطلق الذي يخلق كمالا مطلقاً مثله فهو نقيضة من نقائض اللفظ لا تستقيم في التعبير فضلاً عن التفكير ..فالكمال المطلق صفة منفردة لا أول لها ولا آخر ..وبالتالي لا محل فيها لما هو كامل وما هو أكمل منه .. لذلك من الواضح والبديهي أن يكون الخالق أكمل من المخلوق وألا يكون كلاهما بنفس الصفات .. فكيف لذي الكمال المطلق أن يخلق ذو كمال مطلق آخر .. فالثاني ستظهر عليه صفة إيجاده وهي تنافي إمكانية اتصافه بالكمال المطلق وهو ما ينقض أساس الفكرة الثانية كلها.

تسمر صاحبنا الحزين على حال العالم في مكانه وظهرت على وجهه علامات العجز عن التعليق وتسمرت أنا الآخر تنتابني علامات الفرح والحزن في آن ،، فرحاً بإجابات وافية كافية مقنعة وحزناً على عدم قدرتي على الإتيان بمثل مقاله ..
لم يعبأ متحدثنا بحالنا وواصل المسير والخوض في هذه الأفكار المتواصلة الدسمة ..

سأفتح لنفسي ولكم بعض الأسئلة عن للمقارنة بين أمرين .. أمر القدرة الإلهية وأمر النعمة الإلهية ..
أما القدرة الإلهية فكما تقدم وقلت لا بد من خلق هذا العالم وقد دحضت بكلامي ما يناقض ذلك ..
أما النعمة الإلهية فقد يحاول من خلالها بعض المتشككين والمتشائمين فتح باب لزيادة جرعات الشك والتشائم فقد يقول قائل منهم أن ترك المخلوقات في ساحة العدم أرحم بها من اخراجها إلى ساحة الوجود ما دام الألم قضاء محتوم على جميع المخلوقات .فيرد عليهم بأن النعمة الإلهية بأنعام الله على مخلوقاته بنصيب من الوجود يبلغون به مبلغهم من الكمال المستطاع لكل مخلوق أقرب إلى المعقول من تفسيرهم بترك المخلوق في ساحة العدم .
فمشكلة الشر كما ترون أيها الأصحاب ليست مشكلة كونية ولا عقلية بل تتعلق بالهوى الإنساني الذي يرفض الألم ويرى أن السعادة والشعور بالسرور هو الغالب على طبائع الأمور كلها .. وهذا الهوى الإنساني لا بد له من حكمة تطابقه وتدحضه وتثبط من عزيمته وهو الدين ..
نظر الثلاثيني إلينا متسائلاً : فهمتوا شيء ؟
أجبنا : نعم وكلامك ممتاز وواضح ..
قال : ممتاز .. ماذا الآن ،هل نكمل الحديث عن الدين ؟
أجبت : انظر لساعتك . نظر إليها فكانت الساعة الواحدة صباحاً ،، ابتسم وأردف :
في ليلة ما قد تكون قمرية كهذه الليلة سنكمل حديثنا عن الدين وحاجته وكيف يجيب عن الكثير من التساؤلات .. هيا فلنتفرق وليذهب كل إلى حاجته فأمامنا صلاة الفجر ولا بد من النوم في أسرع وقت ..
تصبحون على خير أيها الأصحاب.