24‏/12‏/2009

سقطات عقل إنساني (1)


كان لداروين وافكاره وقع كبير لدى هواة التفسير المادي للتاريخ والذين أخذوا بزمام تلك الأفكار وانطلقوا من خلالها في بناء عديد من رؤاهم وتصوراتهم لعالم الإقتصاد وعلم الإجتماع ..

كانوا يرتكزون على ثلاث من الأسس والنقاط الجوهرية والرئيسية المستمدة من الداروينية، أولها: عدم الإعتراف بالله مسيّراً لهذا الكون والقول بالطبيعة بدلاً من ذلك.وثانيها: القول بأن الكائنات الحيّة تتخذ مساراً حتمياً يظهر عن ضغط البيئة المحيطة الخارجية ومحاولة الكائنات التكيف في هذه الحالة مع المحيط والذي يؤدي بدوره إلى انقراض عدد من الأعضاء وظهور أخرى تتوافق مع المحيط. أما الثالثة فهي النظرة المادية الحيوانية إلى الإنسان واعتباره مادة وجسد وآله وتهميش دور الجانب الروحي والقيم العليا ومحاولة نفيها.

من هذه الأسس الثلاث انبثقت النظرة المادية للتاريخ، وبدأت صياغة المنطق القائل بالتطور ونقله من عالم الأحياء إلى عالم الإقتصاد والإجتماع .. كان الماديون يقولون بظهور المجتمع الشيوعي كتطور أخير للحضارة المادية الأوروبية وهو تطور حتمي لا بد الوصول إليه طال الزمان أم قَصر..

الإنتقال نحو الشيوعية لا يكون إلا بعد خطوات طويلة تخضع لحركة العالم الدائبة المليئة بالتناقضات وإجتماع الأضداد! ولا بد من أجل تفسير هذه التناقضات والأضداد المجتمعة في حركة العالم من منطق يوضحها ويبينها ،لذلك ظهر المنطق الجدلي الديالكتيكي المعاكس للمنطق الصوري القائل بنفي اجتماع التناقضات والأضداد.

المجتمع بدأ من الزراعة فالرق ثم الإقطاع وبعدها انتقل للصناعة حيث التخلص من الإقطاع ومن ثم التحول التلقائي إلى الشيوعية ،، وكل تلك المجتمعات السابقة للشيوعية كانت تحتوي على متناقضات اجتمعت لتؤدي إلى انهيار النظام والتخلص منه والتحول إلى نظام أرقى حتى الوصول إلى الشيوعية ( الأكمل والأعلى في نظرهم ).. وكما هو واضح من التسلسل أعلاه ، نجد من خلال النظر إلى الأنظمة والمجتمعات المتتالية أن الإنسان في نظرهم ليس سوى مادة نفعية بحته وظيفته اقامة المجتمعات المتصارعة من الداخل والمنهارة بعد حين على أكتافه المسحوقة حتى بلوغ المجتمع الشيوعي القائم على جماجم العمال الكادحين .

يقول كارل ماركس في أحد الكتب" إن الوحدة الحقيقية للعالم تنحصر في ماديته .. ولكن إذا سألنا: وإذن ما هو الفكر وما هو الشعور ومن أين ينبعثان ؟ يتضح لنا أنهما نتاج الدماغ البشري، وأن الإنسان نفسه نتاج الطبيعة" ، ويقول في مكان آخر:" إن الأفكار يبتدعها دماغ الإنسان ،وهذا الدماغ ليس إلا مادة دقيقة التركيب وهو جزء من الجسم يعكس مؤثرات العالم الخارجي"،، من هنا نستشف أن المشاعر كلها والأفكار كلها هي في الأساس تتشكل و تظهر وتنتج من خلال الدماغ الناتج عن الطبيعة وأن المشاعر والأحاسيس كلها نتاج لمؤثرات خارجية فقط! إنه الإيمان الكاسح بجانب على آخر ، الإيمان بالجانب المادي للإنسان على أي قيمة روحية عليا أخرى ، الإيمان بأن الأخلاق والقيم والمبادئ وكل ما يتعلق بروح الإنسان ليس سوى مجموعة من النتائج الظاهرة عن التفاعلات الإقتصادية في المجتمع!

إذن لا يوجد أي كيان ثابت اسمه " الإنسان" كما يقول هواة التفسير المادي للتاريخ ، فالإنسان وليد البيئة التي يعيش بها وابن المؤثرات الخارجية عليه .. هو مجموعة استجابات لذاك الوسط ، ينطبع به ويبقى كما هو عليه لا تربطه أي صلة بإنسان من بيئة أخرى فكل المشاعر والأحاسيس نتاج تفاعلات المال والأعمال!

الكيان الإنساني ليس كذلك ،، هو كيان لا تنشئة المؤثرات الخارجية والبيئات المختلفة ، بل هو كيان تبطن بداخله كثير من القوى التي تظهر وتخفت بتأثير البيئة ولا تنشأ بها.. نعم قد تسيطر المؤثرات الخارجية على الإنسان ولكنها ليست حتمية لا تجد أمامها أي منافس ، بل هناك إرادة الإنسان وقدرته التي يمكنها أن تتفاعل مع هذه المؤثرات وقد تُخضعها وتوجهها إلى طريقها الذي ترغب به.

هذه النظرة إلى الإنسان بالنسبة إلى هواة التفسير المادي للتاريخ لا تختلف بتاتاً عن نظرة أبناء الرأسمالية الغربية إليه ، فجميع هذه الأفكار إنبثقت من معين واحد ومصدر واحد بدئاً بالثورة على الكنيسة مروراً بفلاسفة الأنوار كفرانسيس بيكون وتوماس هويز وديكارت وآخرين وأفكارهم تجاه العقل واستنكارهم لكثير من أفكار الدين وبعدها الإفتراق والإنقسام الذي شكل هاذين الفكرين المتنافسين في إقامة المجتمعات وإزالة أخرى وإستعباد الإنسان وسلخه من كل القيم الروحية السامية ..

جون لوك ونيوتن يعتبران من أهم ممدي حركة الإستنارة بالزاد العقلي والكوني ، فالأول أمد حركة الإستنارة برؤية مادية للعقل وطريقة تفكيره والآخر أمدها برؤية حول الكون وكيفية تحركه،، ومن هنا انفجرت الكتابات المتأصلة في طريقي العقل والكون وكيفية الإقتران بينهما ومحاولة السير بالإنسان بعيداً عن عالمه السابق المليء بالتقهقر الفكري والعلمي والذي فتح آفاقاً واسعة للمعرفة المستقبلية وللبناء الحضاري المادي مع ما أنتجه من سلبية في الجانب القيمي والروحي.

هذه السلبية في الجانب القيمي والروحي ازدادت شططاً وبعداً عن التوغل والتعمق في الجانب العلمي والعقلي والإبحار الواسع في بناء الآلة والتفوق في الإكتشافات العلمية، وكل هذا الشطط بين الجانبين كان له دور واسع في إدارة محركات الزمن باتجاه حوسلة الإنسان وتحوله إلى آلة منتجه لأكثر المذاهب الفكرية تطرفاً وتغلغلاً في المادية لذلك برز أدعياء التفسير المادي للتاريخ وظهر في جانب آخر مقابل لهم أدعياء الرأسمالية الغربية ..

يُتبع في يوم غير معلوم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق